الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وروى بن جبير عن الضحّاك عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في تلبية مشركي العرب وكانوا يقولون في تلبيتهم: لبيّك لا شريك لك إلاّ شريك هو لك، تملكه وما ملك، وكان فيها يخزونك من تلبي: فأجب يا الله لولا أن بكرًا دونك بني غطفان وهم يلونك، ينزل الناس ويخزونك، ما زال منا غنجًا يأتونك، وكانت تلبية حرمهم: خرجنا عبادك الناس طرف وهم تلادك، وهم قديمًا عمّروا بلادك، وقد تعادوا فيك من يعادك، وكانت تلبية قريش: (اللهمّ لبيّك، لا شريك لك إلاّ شريكًا هو لك تملكه وما ملك)، وكانت تلبية حمدان وغسان وقضاعة وجذام وتلقين وبهرا: نحن عبادك اليماني إنّا نحجّ ثاني على الطريق الناجي نحن نعادي جئنا إليك حادي. فأنزل الله: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ} يعني في التلبية.وقال: لمّا سمع المشركون ما قبل هذه الآية من الآيات قالوا: فإنّا نؤمن بالله الذي خلق هذه الأشياء ولكنّا نزعم أنّ له شريكًا، فأنزل الله تعالى هذه الآية.عطاء: هذا في الدعاء وذلك أنّ الكفّار أشركوا بربّهم في الرخاء، فإذا أصابهم البلاء أخلصوا في الدعاء، بيانه قوله تعالى: {وظنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} [يونس: 22] وقوله تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كالظلل دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} [لقمان: 32] وقوله: {وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر دَعَانَا لِجَنبِهِ} [يونس: 12] وقوله: {وَإِذَا مَسَّهُ الشر فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} [فصلت: 51].وقال بعض أهل المعاني: معناه وما يؤمن أكثرهم باللهِ إلاّ وهم مشركون قبل إيمانهم، نظيره قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشًا} [ق: 36] يعني كانوا هم أشدّ منهم بطشًا. وقال وهب: هذه في وقعة الدُخَان وذلك أنّ أهل مكّة لمّا غشيهم الدخان في سنيّ القحط قالوا: ربّنا اكشف عنّا العذاب إنّا مؤمنون، وذلك إيمانهم وشكرهم عودهم إلى الكفر بعد كشف العذاب بيانه قوله: {إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} والعود لا يكون، إلاّ بعد ابتداء والله أعلم: {أفأمنوا أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ الله} قال ابن عباس: مُجللة، مجاهد: عذاب يغشاهم، نظيره قوله: {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ العذاب مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [العنكبوت: 55]: قتادة: وقيعة، الضحّاك: يعني الصواعق والقوارع: {أَوْ تَأْتِيَهُمُ الساعة} القيامة: {بَغْتَةً} فجأة،: {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} بقيامها، ابن عباس: تصيح الصيحة بالناس وهم في أسواقهم.{قُلْ} لهُم يا محمّد: {هذه} الدعوة التي أدعو إليها والطريقة التي أنا عليها: {سبيلي} سُنّتي ومنهاجي، قاله ابن زيد، وقال الربيع: دعوتي، الضحّاك: دعائي، مقاتل: ديني، نظيره قوله تعالى: {ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة} [النحل: 125] أي دينه،: {أَدْعُو إلى الله على بَصِيرَةٍ} على يقين، يقال: فلان مستبصر في كذا أي مستيقن: {أَنَاْ وَمَنِ اتبعني} آمن بي وصدّقني فهو أيضًا يدعو إلى الله، هذا قول الكلبي، وابن زيد قال: أحقّ والله على من اتّبعه أن يدعو إليّ بما دعا إليه، ويذكر بالقرآن والموعظة، وينهى عن معاصي الله.وقيل: معناه أنا ومن اتّبعني على بصيرة، يقول: كما أنّي على بصيرة، فكذلك من آمن بي واتّبعني فهو على بصيرة أيضًا، قال ابن عباس: يعني أصحاب محمّد صلى الله عليه وسلم كانوا على أحسن طريقة وأقصد هداية، معدن العلم، وكنز الإيمان وجند الرحمن. {وَسُبْحَانَ الله} أي وقل: سبحان الله تنزيهًا له عمّا أشركوا: {وَمَا أَنَاْ مِنَ المشركين وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ}: يا محمّد: {إِلاَّ رِجَالًا} لا ملائكة،: {نوحي إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ القرى} يعني من أهل الأمصار دون أهل البوادي لأنّ أهل الأمصار أعقل وأفضل وأعلم وأحلم.{أَفَلَمْ يَسِيرُواْ} يعني هؤلاء المشركين المنكرين لنبوّتك: {فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ} أخبر بأمر الأُمم المكذّبة من قبلهم، فيعتبروا: {وَلَدَارُ الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتقوا} يقول جلّ ثناؤه: هذا فعلنا في الدنيا بأهل ولايتنا وطاعتنا أن نُنْجيهم عند نزول العذاب، وما في دار الآخرة لهم خيرٌ، فترك ما ذكرنا، آنفًا لدلالة الكلام عليه، وأُضيف الدار إلى الآخرة ولا خلاف لتعظيمها كقوله تعالى: {إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ اليقين} [الواقعة: 95] وقولهم: عامٌ الأوّل، وبارحة الأولى ويوم الخميس وربيع الآخر: وقال الشاعر:
يعني عرفانًا.{أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} يؤمنون: {حتى إِذَا استيأس الرسل وظنوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} اختلف القُرّاء في قوله: {كُذِبُواْ} فقرأها قوم بالتخفيف وهي قراءة علي بن أبي طالب عليه السلام وابن عباس وابن مسعود وأُبي بن كعب وأبي عبدالرحمن السلمي وعكرمة الضحاك وعلقمة ومسروق والنخعي وأبي جعفر المدني ومحمّد بن كعب والأعمش وعيسى بن عمر الهمداني وأبي اسحاق السبيعي وابن أبي ليلى وعاصم وحمزة وعلي بن الحسين وابنه محمّد بن علي وابنه جعفر بن محمّد، وعبدالله بن مسلم وابن يسار، واختارها الكسائي وأبي عبيدة.وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قرأ: {وظنوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ} مخفّفة وهي قراءة عائشة وهرقل الأعرج ونافع والزهري وعطاء بن أبي رياح وعبدالله بن كثير وعبدالله بن الحارث وأبي رجاء والحسن.وقتادة وأبي عمرو وعيسى وسلام وعمرو بن ميمون ويعقوب، ورويتْ أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم فمن قرأ بالتخفيف، فمعناه: حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم وظنّ قومهم أنّ الرسل قد كذبتهم في وجود العذاب.وروى الخبر عن شعيب بن الحجاج عن إبراهيم عن أبي حمزة الجزري: قال صنعت طعامًا فدعوتُ ناسًا من أصحابنا منهم: سعيد بن جبير وأرسلتُ إلى الضحّاك بن مزاحم فأبى أن يجيئني فأتيته فلم أدعه حتى جاء، قال: فسأل فتىً من قريش سعيد بن جبير فقال: يا أبا عبدالله كيف تقرأ هذا الحرف فإنّي إذا أتيت عليه تمنّيت إنّي لا أقرأ هذه السورة: {حتى إِذَا استيأس الرسل وظنوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} قال: نعم حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يصدّقوهم، وظنّ المُرسل إليهم أنّ الرُسل كذّبوهم.قال: فقال الضحّاك: ما رأيتُ كاليوم قط رجلا يدعى إلى علم فيتلكّأ، لو رحلت في هذه إلى اليمن لكان قليلا.وقال بعضهم: معنى الآية على هذه القراءة حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم وظنَّت الرُسُل أنّهم قد كُذِبوا فيما وجدوا من النُصرة. وهذه رواية ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال: كانوا دعوا فضعفوا ويئسوا وظنوا أنّهم أخلفوا ثمّ قوله تعالى: {حتى يَقُولَ الرسول والذين آمَنُواْ مَعَهُ متى نَصْرُ الله} [البقرة: 214] الآية، ومن قرأ بالتشديد فمعناها، حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يؤمنوا بهم وظنّت الرُسُل أي استيقنت أنّ أممهم قد كذبوهم جاءهم نصرُنا، وعلى هذا التأويل يكون الظنّ بمعنى العلم واليقين كقول الشاعر: أي أيقّنوا.وهذا معنى قول قتادة، وقال بعضهم: معنى الآية على هذه القراءة حتى إذا استيأس الرُسُل ممّن كذّبهم من قومهم أن يصدّقونهم، وظنّت الرسل أنّ من قد آمن بهم وصدّقوهم قد كذّبوهم فارتدوا عن دينهم لاستبطائهم النصر: {جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} وهذا معنى قول عائشة.وقرأ مجاهد: {كُذِبُوا} بفتح الكاف والذال مخفّفة ولها تأويلان: أحدهما: حتى إذا استيأس الرسل أن يُعذَب قومهم، وظنّ قومهم أنّ الرُسُل قد كذبوا جاء الرُسل نصرنا، والثاني: حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم وظنّت الرسل أنّ قومهم قد كذبوا على الله بكفرهم، ويكون معنى الظنّ اليقين على هذا التأويل، والله أعلم.{فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ} عند نزول العذاب وهم المطيعون والمؤمنون: {وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا} عذابنا: {عَنِ القوم المجرمين} يعني المشركين، واختلف القرّاء في قوله {فنُجّي} فقرأها عامّة القراء فننجّي بنونين على معنى فنحن نفعل بهم ذلك، فأدغم الكسائي أحد النونين في الأُخرى فقرأ: {فنجّي} بنون واحدة وتشديد الجيم، وقرأ عاصم بضمّ النون وتشديد الجيم وفتح الياء على مذهب ما لم يُسمَّ فاعله، واختار أبو عبيد هذه القراءة لأنّها في مصحف عثمان، وسائر مصاحف البلدان بنون واحدة وقرأ ابن مُحيصن {فنجا من نشاء} بفتح النون والتخفيف على أنّه فعل ماض ويكون محلّه على قراءة عاصم وابن محيصن رفعًا، وعلى قراءة الباقين نصبًا.{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ} أي في خبر يوسف وأخوته: {عِبْرَةٌ} عِظة: {لأُوْلِي الألباب مَا كَانَ} يعني القرآن: {حَدِيثًا يفترى} يُختلق: {ولكن تَصْدِيقَ} يعني ولكن كان تصديق: {الذي بَيْنَ يَدَيْهِ} أي ما قبله من الكتب: {وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ} ممّا يحتاج إليه العباد: {وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}. اهـ.
وقرئ: {نوحي إليهم}، بالنون. {مِنْ أَهْلِ الْقُرى} لأنهم أعلم وأحلم، وأهل البوادي فيهم الجهل والجفاء والقسوة {وَلَدارُ الْآخِرَةِ} ولدار الساعة، أو الحال الآخرة {خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا} للذين خافوا اللّه فلم يشركوا به ولم يعصوه. وقرئ: {أفلا تعقلون}، بالتاء والياء.
|